لا أذكر حادثا أفرز هذا الفيض من النكات (ولا أنكر مبادرتي بأول ست منها) منذ سقوط مليونير الصحافة روبرت ماكسويل، (كان مكروها من أبناء المهنة) من فوق يخته قبل 15 عاما.
لن أقارن بين جورج بوش وماكسويل (لا يزال الأخير يتبوأ قائمة المكروهين للصحفيين)، أو بين الأحداث التي مرت بالرجلين.
لكن فحص التركيبة والمفهومية conceptual والمرجعية التاريخية للنكات يكشف قضايا لا يدعو أغلبها للسرور بعكس المظهر الفكاهي.
فبجانب عنوان المقال صغنا كصحفيين متعددي الجنسيات نكات مثل «اتحاد الصحفيين العراقيين يدرج مقاس الحذاء في بطاقة العضوية»، أو «شرطة بغداد توظف اسلو سندريلا للعثور على المتهم» أو «مثل التليفون الموبايل سنترك الحذاء خارج قاعة لقاء المسؤول الأمريكي».
النكات مزج الأحداث المعاصرة بمفاهيم مستخرجة من مخزون أحداث تاريخية قريبة وبعيدة، كتفسير لحظي لها. لكنها ترسم صورة غير مريحة للعالم وخاصة لنا كصحفيين.
إدخال تعبيرات كالدمار الشامل، وسندريلا، في النكات، أمر متوقع، لكن نكتة البطاقة الصحفية لها دلالات خطيرة سأعود اليها بعد قليل.
مجمل النكات يعكس صورة واقع محزن، لطريقة تفكير thought process العقلية العربية عندما تتعامل مع الاحداث.
فاول تجمع ـ والوحيد حيث اكتب المقال من سرير المستشفى قبل اجراء جراحة في العمود الفقري ـ بعد واقعة تفادي بوش للحذاء المقذوف، كانت حفلة سفارة عربية في لندن.
فوجئت بحالة عامة من الاغتباط والتشفي والسرور البالغ بين «وجهاء» عربان لندن و«سيدات مجتمعه» ـ وهم سفراء بلدانهم للمجتمع البريطاني ـ لقذف حذاء في وجه الرئيس الامريكي، رغم تناقضها والتقاليد العربية التي قرأت عنها وصادفتها (لم يتح لي شرف الاقامة الدائمة في بلد عربي لكن زرت كل البلدان الاعضاء في الجامعة العربية كصحفي)، وتقاليد الكرم التي يتغنى بها كل اوروبي نزل ضيفا في بلد عربي وكأنه زار إحدى عجائب الدنيا السبع، وتقاليد الشرف باكرام الضيف واحترامه، بل والدفاع بالدم عمن لجأ لدار عربي للحماية.
تبخرت كلها في لحظة إلقاء متهور متنكر في زي صحفي الحذاء على ضيف لبلده.
رمية الحذاء ـ التي تفاداها بوش ـ كانت اكثر إهانة للعراق ممثلا في رئيس وزرائه المنتخب نوري المالكي.
اثناء زيارة الرئيس بوش لبريطانيا انهالت خطابات ابناء جيل آخر الرجال المحترمين من نظار المدارس ورجال الدين وجنرالات الجيش المتقاعدين، وصفوة المجتمع على الصحف تستنكر مظاهرة الاحتجاج التي نظمها عمدة لندن السابق اليساري المتطرف كين ليفنغستون (المعروف بكين الاحمر) من اموال دافعي الضرائب ضد بوش، إلا انهم اعتبروها إهانة لجلالة الملكة كمضيفة الرئيس بوش لانها كانت «زيارة دولة» وعندما يهان الضيف فانها اهانة مضاعفة للمضيفة، وبالتالي اهانة للأمة البريطانية باهانة ضيف ملكتها.
أحزنني في التجمع العربي اللندني ليلتها ـ ثقافيا واقتصاديا ومهنيا واجتماعيا ـ ما فاتهم، في فرحة الحذاء من ملاحظة بديهية بانها كانت مضاعفة للمضيف رئيس الوزراء نور المالكي.
وما زلت افكر ـ وأقسم انني لم اتلق حقن التخدير بعد ـ في تفسير طبيب نفساني جينيا نصف انجليزي نصف مصري، في مدى اغتباط بعض اطباء واغلبية المهنيين العرب من رمية الحذاء دون التوقف للتفكير في انها إهانة لشعب العراق كمضيف للرئيس بوش.
قال لي الطبيب إن اللاشعور عند العرب مصاب بعقدة الاضطهاد التي تحولت لعقدة نقص ثم في شكل غيرة لا شعورية بان البلد العربي الوحيد الممارس لديمقراطية تبدل الحكومة عن طريق الانتخاب (استباقا لمن سيدعي ان لبنان ديموقراطي) اقول انها صورة مزيفة لان الطائفية جزء من تركيبة توزيع مناصب الدولة التي بها دويلات داخلها). ربما عقدة الغيرة او الاضطراب السايكولوجي (أي سيكولوجية الوعي السياسي) عند افراد من بلدان لا تتبدل فيها الحكومة بارادة الناخب أعمتهم عن رؤية الفيل في القاعة، او الصورة الاكبر، وركزوا على الحدث الاصغر وهو «اسكتش» ضربة الحذاء واعتبروها «انتقامهم» من المشهد السياسي العراقي.
المجموعة الاخرى من النكات كانت عالمية ولها ايضا تفسيرات تستحق الملاحظة.
نكات مثل «السي آي ايه تبحث عن (جزمجية) ـ مصلحي احذية قديمة ـ لاستغلال خبرتهم في ابتكار درع للوقاية من الاحذية البعيدة المدى»، واخرى جعلت وظيفة الجزمجية المساعدة على ابتكار حذاء بلا قدمين مثل طائرة بلا طيار بريموت كنترول ضد حركة التمرد العراقية» على طريقة محاولة السي آي إيه إرسال سيجار يحترق بكثافة لإحراق لحية فيديل كاسترو لتعريته ايديولوجيا، واخرى لتوظيف خبرة الجزمجية لابتكار سترة وقاية الكترونية لارتدائها عند زيارة بلدان تستخدم الاحذية كوسيلة حوار».
اعترف بأنني مصدرها في الدقائق العشر الاولى من وقوع الحادثة اثناء وجودي في غرفة اخبار صحيفة انجليزية.
البعد العالمي لهذه النكات يعتمد على اخطاء السياسة الامريكية وفشلها في ايصال رسالتها للناس، رغم انها اكثر بلدان العالم سخاء وعطاء للبلدان الفقيرة وتبرعا للهيئات العالمية، وليس لها تاريخ استعماري أي انها «لم تنهب ثروات الشعوب» مثلما يتعلم البعض نصف الحقيقة في مناهج الدراسة العربية بدراسة التلميذ التاريخ عبر احداث منتقاة خارج السياق عن بريطانيا الامبراطورية مثلا.
احد الاسباب سياسة القوة بلا ديبلوماسية طويلة المدى (نكتة الحذاء بلا قدمين او الدرع الواقي من الاحذية) والاخرى خطط السي آي ايه الساذجة بميزانيات خرافية لاهداف غير واحة فتكون النتائج مضحكة كسيجار كاسترو.
لكن الجزء الاكبر من سوء فهم السياسة الامريكية هو «التفسير» اللامنطقي لها باقلام صحفيين عرب شبوا في احضان ديكتاتوريات انتزعت من عقولهم القدرة على التفكير المستقل، واصبح العنف والقوانين التعسفية جزءا من تفكيرهم الصحفي (نكتة مقاس الحذاء في البطاقة الصحفية) وصدقوا الاكاذيب التي اخترعوها وروجوا لها عند الجماهير المسكينة، واصبح العنف وعدم قبول الاخر كند مساو محترم جزءا من حياتهم (كنكتة استخدام الاحذية كوسيلة حوار).
ضربة الحذاء اهانة لكل صحفي على وجه الارض، فالصحفي مثل الطبيب محايد لا يرفض علاج مريض لان شكله لا يعجبه او هناك خلاف معه.
واذ اتضح ان للصحفي رأيا مسبقا او غير محايد في تغطيته لموضوع خبري فعلى رئيس التحرير ان يغيره فورا بصحفي آخر محايد.
ويوم ان يكون للصحفي تحمس سياسي لقضية فمن الافضل له، وللمهنة، ان يترك الصحافة ويخوض الانتخابات البرلمانية طارحا برنامجه للناخب وإلا ستتحول الصحافة في النهاية الى حوار بالاحذية.